فصل: مسألة يشهد إذا استيقن أنه خط يده وإن لم يثبت عدة المال:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة يعرف خطه في الكتاب لا يشك في ذلك أيشهد بما فيه:

قلت: أرأيت الرجل يعرف خطه في الكتاب لا يشك في ذلك، ولا يذكر كل ما فيه؟ فقال: اختلف أصحابنا فيه، والذي أقول به أنه إذا لم ير في الكتاب محوا، ولا لحقا، ولا شيئا يستنكره، ورأى الكتاب خطا واحدا، فأرى له أن يشهد بما فيه، وأن يقول: أشهد بما فيه، وهذا أمر لا يجد الناس منه بدا، ولا يستطيع أحد أن يذكر جميع ما في الكتاب، قيل له: ولو أنه لم يذكر من الكتاب شيئا، إلا أنه يعرف خط الشهادة أنه خط بيده، ولا يشك في ذلك. فقال: هذا أمر لا يجد الناس منه بدا، ومن يستطيع أن يحفظ كل ما في الكتاب؟ وأراه واسعا، وقد أخبرتك باختلاف أصحابنا في هذه المسألة، فاعمل فيها برأيك، وقد أخبرتك أنه إن لم ير في الكتاب شيئا يستنكر، ورآه خطا واحدا أنه يقوم به، قيل له: فلو أنه عرف أنه كتب الكتاب كله، أو عرف خطه في الكتاب كله، وفيه شهادته، ولم ير شيئا يستنكره، ولم يذكر منه شيئا؟ فقال: أرى أن يشهد بها، ولو أنه أعلم القاضي بذلك لرأيت للقاضي أن يجيز شهادته إذا عرف أن الكتاب كله خط يده، قال سحنون: وجميع أصحابنا يقولون: إن شهادته جائزة، إذا ذكر أنه هو خط الكتاب، وكتب شهادته بيده، ولم ير فيه محوا، ولا يشكون أنها جائزة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مجودا مشروحا مبينا في رسم الشجرة، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادة شيء منه، وبالله التوفيق.

.مسألة أتى بكتاب فيه شهادته ولا يذكر هو شيئا من ذلك:

قال سحنون: قال ابن وهب، عن مالك إذا أتى الرجل بكتاب فيه شهادته، فعرف خطه بيده، ولا يذكر شهادته، ولا شيئا منها فيقول بعض الشهود الذي في الكتاب معه، نشهد أنه كتاب يدك، وأنك كتبت معنا، ولا يذكر هو شيئا من ذلك؟ قال: إن كان يستيقن أنه كتابه، وخط يده فعلم ذلك وتيقنه، فليشهد عليه، وإن كان إنما يعلم ذلك بخبر غيره، وقولهم له فلا أرى أن يشهد على ذلك، وإن ارتاب الرجل حين رأى كتابا يشبه كتابه، فيقول: عسى أن يكون إياه، وخاف أن يكون يشبه كتابه، فلا أرى أن يشهد على ذلك، وليخبر بعلمه بالغا ما بلغ، ولا أرى أن يجيز السلطان ذلك إلا أن يشهد الرجل أنه كتابه وشهادته.
قال محمد بن رشد: وهذه مسألة أيضا قد مضى القول في معانيها، في رسم الشجرة المذكور، فلا معنى لإعادته.

.مسألة يشهد إذا استيقن أنه خط يده وإن لم يثبت عدة المال:

وقال ابن وهب عن مالك: إنه قال: من عرف خط يده في شهادة ذكر حق، ولم يثبت عدة المال إن استيقن أنه خط يده، وكان لا يثبت عدة المال فليشهد عليه، وينبغي للقاضي القضاء به إذا شهد عنده أنه خط يده، ولم يشهد عنده على عدة المال.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه يشهد إذا استيقن أنه خط يده، وإن لم يثبت عدة المال خلاف ما في سماع أبي زيد من أنه لا يشهد، وإن استيقن أن الخط خطه، وذكر أن فلانا أشهده في أمر دار حتى يذكر شهادته، ويثبتها حرفا بحرف، وهذا الاختلاف إنما هو إذا وضع الرجل شهادته على معرفته في عقد استرعاء، وأشهد آخر على نفسه بمال أو بشهادة فيها مال، أو حق فيها سوى المال، يقيد شهادته بخط يده بما أشهد عليه، واستحفظ إياه، فلما دعي إلى أداء الشهادة عرف خط يده واستيقنه، ولم يذكر الشهادة لنسيانه لها بعد ذكره إياها، فوجه القول بأنه يشهد تيقنه صحة الشهادة لمعرفته بخط يده، وأنه لم يضع شهادته في الوقت الذي وضعها فيه، إلا وهو عالم بها، ووجه القول بأنه لا يشهد بها أنه غير ذاكر لها في وقت أدائه إياها، وأما ما أشهد عليه الشاهد من العقود بالمبايعات والإقرارات، فليس على الشاهد أن يقرأها، ولا يحفظ ما فيها، وحسبه أن يتصفح منها عقد الإشهاد، فيجوز له أن يؤدي شهادته على ما أشهد عليه، وإن لم يعرف ما في الكتاب ولا عدد المال إذا عرف أعيان المشهدين له على أنفسهم.
قال ابن دحون: فإن عرف الشاهد عين المشهود عليه، ولم يعرف عين المشهود له، فلا يشهد إلا أن يبين، وأما إذا لم يعرفهما جميعا فلا يشهد. قلت: وكذلك إذا عرف المشهود له، ولم يعرف المشهود عليه، لا يشهد ألبتة، وبالله التوفيق.

.مسألة يأتي بذكر حق قد مات شهوده ويأتي بشاهدين عدلين على الكتاب:

وقال ابن وهب: سمعت مالكا يقول في الرجل يأتي بذكر حق قد مات شهوده، ويأتي بشاهدين عدلين يشهدان على كتاب كاتب ذكر الحق، قال: تجوز شهادتهما على كتاب الكاتب، إذا كان عدلا مع يمين صاحب الحق، فإن لم يحلف حلف الذي عليه الحق، فإن نكل عن اليمين غرم، فقيل لمالك: أفرأيت إن مات صاحب الحق وقام ورثته بذلك الكتاب مع شهادة الرجلين على كتاب الكاتب؟ قال مالك: يحلفون بالله ما علموا أن صاحبهم قبض من هذا الذكر الحق شيئا مع شهادة الرجلين، ويقضى لهم بذلك الحق، ومع هذا آثار في موطأ ابن وهب.
قال الإمام القاضي: قوله: إنه يحلف مع شهادة الشاهدين على كتاب كاتب ذكر الحق معناه إذا كتب شهادته فيه، فلا مزية في هذا الكاتب ذكر الحق على غيره ممن كتب شهادته فيه إذا شهد على خط، وأما قوله: إن الورثة يحلفون مع شهادة الرجلين على كتاب الكاتب بالله ما علموا أن صاحبهم قبض من هذا الذكر الحق شيئا، فقد مضى من القول فيه في رسم الشجرة، من سماع ابن القاسم، ما لا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة الزيادة في صفة الدراهم كالصفة في عددها:

قلت: أرأيت إن شهد شاهدان لرجل على رجل بألف درهم فقال أحدهما: هي بيض، وقال الآخر: هي سود، وللسود فضل في الصرف على البيض؟ قال: إذا ادعى الطالب السود قلت له: احلف مع شاهدك، وهي لك، فإن أبى أن يحلف ردت اليمين على المطلوب، فقضيت للطالب بالبيض، وذلك لأن البيض أدناهما في الصرف.
قال محمد بن رشد: بنى سحنون جوابه في هذه المسألة على أن الزيادة في صفة الدراهم كالصفة في عددها، فجعل شهادة أحدهما أنها بيض، والآخر أنها سود، كشهادة أحدهما: أنها ألف، والآخر أنها ألف وخمسمائة إن ادعى الطالب الأكثر في العدد، أو الأفضل في الصفة، أخذه مع يمينه لانفراد أحد شاهديه به، وإن نكل عن اليمين حلف المطلوب أنه ما له عليه إلا الأدنى في الصفة، أو الأقل في العدد، وإن كان منكرا للجميع حلف أنه ما له عليه شيء، وكان للطالب في الوجهين الأقل في العدد أو الأدنى في الصفة؛ لاجتماع الشاهدين على ذلك، وإن نكل المطلوب عن اليمين استحق الطالب عليه الأكثر في العدد، أو الأفضل في الصفة، وإن ادعى الطالب الأقل في العدد، أو الأدنى في الصفة أخذه بلا يمين لاجتماع الشاهدين جميعا عليه، ومساواة سحنون في هذه المسألة بين الزيادة في العدد والزيادة في الصفة، هي على أصل ابن القاسم وروايته عن مالك في السلم الثاني من المدونة، أن القول قول المسلم إليه إذا اتفقا على النوع، واختلفا في الصفة كما إذا اختلفا في العدد، والأظهر في القياس والنظر أن تكون شهادة أحدهما: أنها بيض، والآخر أنها سود كشهادة أحدهما له ببغل، والثاني بحمار، أو كشهادة أحدهما له بدنانير، والثاني بدراهم، فإن كان المطلوب منكرا حلف الطالب مع أي شاهديه شاء، واستحق ما حلف عليه، فإن نكل حلف المطلوب، ولم يكن للطالب شيء؛ لأنه نفى نفسه عن البيض بدعواه السود، وإن كان مقرا بما شهد به عليه أحدهما، فادعى الطالب ما شهد به الشاهد الآخر حلف مع شهادته واستحقه، فإن ادعى الحقين جميعا والشاهدان يقولان: إنه حق واحد بطلت شهادتهما له لتكذيبه إياهما، وحلف المطلوب وبرئ، وبالله التوفيق.

.مسألة شهدا بألف درهم قال أحدهما وزنها خمسة دوانق وقال الآخر بل هي كيل:

قلت: أرأيت لو شهدا بألف درهم فقال أحدهما: وزنها خمسة دوانق، وقال الآخر: بل هي كيل؟ فقال: يحلف الطالب مع شاهده ويأخذها كيلا، فإن نكل عن اليمين رددتها على المطلوب، فإن حلف قضيت للطالب بها على أن وزن كل درهم خمسة دوانق. قال: ومثل ذلك الشاهدان يشهدان لعبد أنه أعتق، فقال أحدهما: أعتقه إلى سنة، وقال الآخر: بل عتقه بتلا، فقال: يعتق إلى سنة لأدنى ما شهد به، وقد قال مالك في العتق مثل هذا. قيل له: فإن ادعى المالين؟ فقال: إن كان الشاهدان وقفا على أنهما شهدا على مال واحد، فليس ذلك له، ويحلف مع الذي شهد له بأجود المالين، وإن أبى أن يحلف ورد اليمين على المطلوب حلف المطلوب أنه ليس له عليه أجود المالين، وإن شاء حلف أنه ليس له عليه من المالين شيء، وكان للطالب أدنى المالين ولا يمين عليه، وإن كانا لم يوقفا وقفا على شهادتهما إن قدر على إيقافهما، فإن شهدا وزعما أنه مال واحد كان كما وصفت لك، وإن زعما أنه شهد كل واحد منهما على حدة لم يستحق بشهادتهما شيئا من المال إلا بيمينه، فإن شاء حلف على المالين واستحقهما جميعا، وإن شاء حلف على أحدهما واستحقه، ورد اليمين على المدعى عليه في المال الآخر، فهذا وما أشبهه هكذا.
قال: ولكن لو شهد لرجل شاهدان؛ فقال أحدهما: أشهد لفلان على فلان ببغل، وقال الآخر: أشهد أن له عليه حنطة زعما جميعا أنها شهادة واحدة أبطلت شهادتهما، إن زعم رب الحق أنهما حقان مختلفان، قال: وإن زعم أن أحدهما محق، أحلفته مع شاهده المحق، وأعطيته ما ادعى مما يشهدان له به، وذلك ما اجتمع له عليه الشاهدان، قال: وإن شهد له ثلاثة فشهد له منهم شاهدان، بأن له عليه بغل، وشهد الآخر بأن له عليه عشرة أرادب حنطة، وزعموا جميعا أنها شهادة واحدة، فإن ادعى الطالب جميع ذلك بطلت شهادتهم جميعا؛ لأنه أكذبهم جميعا في شهادتهم، وإن ادعى ما شهد له به الرجلان أخذه بلا يمين، وإن ادعى ما شهد له به الشاهد الواحد حلف مع شاهده، واستحق حقه إلا أن يقول الذي شهد بالحق عليه إن الحق هو الذي شهد عليه الشاهدان، فلا يكون له عليه إلا ما شهدا به، وتبطل شهادة الشاهدين؛ لأن الشاهدين صارا مكذبين لشهادة الشاهد الذي شهد له، فإن أبى أن يأخذ ذلك فسأل المطلوب أن يكرهه على أخذ ما شهد به الشاهدان كان ذلك له، وإن لم يكرهه على أخذ ما يجحده فيما شهد به الشاهدان كان ذلك له، وإن لم يكرهه على ذلك لم يجبرهما على شيء، وتركهما على حالهما، قال: ومتى رجع الطالب فيما كان ترك من ذلك، كان له أخذه، ولم أر عليه يمينا فيما يجحده فيما شهد له به الشاهد، وشهادة الشاهدين عليه بإكذابه في شهادته، وذلك أنهما صارا مجرحين له، ألا ترى لو أن رجلا جاء شاهدا على رجل بحق فجرحه المشهود عليه، بطلت شهادته، ولم ألزمه شيئا بشهادته، إلا أن يأتي بشاهد سوى شاهده بخلطة لا يعرف لها منتهى، وليس شهادة الشاهدين عليه توجب اليمين فيما أنكر لأنهما شهدا على شاهد أنه يشهد بباطل، وقد انقطعت الخلطة التي شهد شاهدهما بها، وشهد على انقطاعها، ألا ترى لو شهد رجلان لرجل بمائة دينار، فقضى عليه بها قاض، ثم جاء المدعي من الغد يدعي مالا آخر، لم أحلف له حتى يأتي بالبينة على خلطة، لا يقطع منها شيئا.
قال محمد بن رشد: قوله في الشاهدين يشهدان بألف درهم فيقول أحدهما: وزنها خمسة دوانق، ويقول الآخر: بل هي كيل إن الطالب يحلف مع شاهده، ويأخذها كيلا، فإن نكل عن اليمين ردت على المطلوب، فإن حلف قضي للطالب بها على أن وزن كل درهم خمسة دوانق صحيح، لا اختلاف فيه إن كانت الدراهم لا تجوز بأعيانها، وإنما تجوز بالوزن؛ لأن اختلافهما إنما يعود إلى الزيادة في الوزن والعدد لا في الصفة، فللطالب أن يأخذ الأدنى بغير يمين، أو يأخذ الأكثر بيمينه، وإذا أخذ الأدنى حلف المطلوب على الزيادة، وله رد اليمين على الطالب، ووقع في بعض الروايات: فإن نكل قضيت للطالب بها على أن وزن كل درهم خمسة دوانق، وهو غلط لا وجه له.
وأما إن كانت الدراهم تجوز بأعيانها، وتجري عددا دون وزن، فيدخل فيها من الاختلاف بالمعنى ما دخل في المسألة التي قبلها، ويحلف الطالب إن أنكر المطلوب مع أي شاهديه شاء، فإن نكل حلف المطلوب، ولم يكن للطالب شيء؛ لأنه أقر بدعواه التي هي كيل؛ أنه لا شيء عليه من النواقص.
وأما قوله في الشاهدين يشهدان للعبد بالعتق، فيقول أحدهما: أعتقه بتلا، ويقول الآخر: أعتقه إلى سنة، أنه يعتق إلى سنة، فهو صحيح؛ لأنهما قد اجتمعا على أنه حر إلى سنة، وانفرد أحدهما بالشهادة على تعجيل العتق، فوجب أن يعتق إلى سنة على ما اجتمعت عليه شهادة الشاهدين بعد يمين السيد أنه ما أعتقه إن أنكر العتق، أو أنه ما عجل عتقه إن أقر أنه أعتقه إلى سنة، فإن نكل عن اليمين عجل عليه العتق، وقيل: إنه يحبس حتى يحلف، ولم يكن للعبد أن يحلف مع الشاهد الذي شهد بتعجيل العتق؛ إذ لا يستحق العبد باليمين مع الشاهد.
وقوله: إنه إن ادعى المالين والشاهدان يقولان: إنه مال واحد إن ذلك ليس له، ويحلف مع الذي شهد له بأجود المالين، يريد أن له أن يحلف معه إن شاء، فيستحق ما شهد له به، وإن شاء أن يأخذ أدنى المالين، فيكون ذلك له دون يمين.
وقوله في الذي شهد له أحدهما ببغل، والآخر بحنطة، وزعم أن أحدهما محق أنه يحلف مع المحق منهما، ويأخذ ما ادعى مما شهد له به صحيح بين، وأما قوله: وذلك ما اجتمع له عليه الشاهدان، فمعناه وذلك أنه لم يجتمع له عليه الشاهدان على أن ما نافية لا موجبة؛ إذ لم يجتمع له على ذلك الشاهدان، ولو اجتمعا له على ذلك لم يجب عليه يمين. وقوله في الذي يشهد له ثلاثة شهود؛ اثنان منهم ببغل، والثالث بحنطة، وزعموا أنها شهادة واحدة أن الطالب إن ادعى الذي شهد به الشاهد الواحد حلف مع شاهده، واستحق حقه لا يصح على مذهب ابن القاسم؛ لأن الشاهدين يسقطان شهادة الشاهد الواحد كما يسقطان شهادة الشاهدين لو كانا أربعة، فشهد اثنان منهم ببغل واثنان بحنطة، وزعموا أنها شهادة واحدة، وإنما يأتي قول سحنون في هذه المسألة على قول مطرف وابن الماجشون في أن شهادتهما جميعا جائزة، فيقضى للطالب بالبغل والحنطة، وأما الشاهد الواحد فلا تسقط بشهادته شهادة الشاهدين إذا خالفهما في الشهادة، ولا شهادة الشاهد الواحد إذا خالفه في الشهادة، وإنما تبطل بتكذيب الطالب إياهم بدعواهم أنهما حقان، وهم يزعمون أنه حق واحد.
وأما قوله: ولم أر عليه يمينا فيما يجحده فيما شهد له به الشاهد؛ لسقوط شهادته، فقد مضى القول على ذلك، وذكر الاختلاف فيه في رسم الشجرة، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته.
وأما قوله: إلا أن يأتي بشاهد سوى شاهده بخلطة، لا يعرف لها منتهى إلى آخر قوله، فقد مضى القول عليه مستوفى في رسم الصبرة، من سماع يحيى، وفي كتاب في سماع أصبغ منه، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة شهد له العدل عند القاضي أن هذا المتاع جعله فلان عندي رهنا على أن أبيعه:

قلت لسحنون: أرأيت الرجل يجعل المتاع على يديه رهنا على أنه إن لم يقض الراهن الدين إلى الأجل باع عليه الرهن هذا الأمين الذي جعل الرهن على يديه، فلما حل الأجل لم يكن لصاحب الحق شاهد على الدين، وعلى الرهن إلا العدل الذي جعل الرهن على يديه، فشهد له العدل عند القاضي أن هذا المتاع جعله فلان عندي رهنا على أن أبيعه، وأقضي ثمنه فلانا غريمه، هل تجوز شهادته؟ قال: أرى شهادته جائزة، ويحلف صاحب الحق مع شاهده إذا شهد بها العدل عند القاضي قبل أن يبيع المتاع، فإن شهد بها بعدما باع المتاع لم تجز شهادته؛ لأنه يريد طرح الضمان عن نفسه، ويشهد لنفسه أنه لم يتعد فيما صنع.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة في المعنى، لا وجه للقول فيها، والله الموفق.

.مسألة شهد له شهود بأنه حاز رهنا وآخرون بأنه لم يحزه:

قيل له: فرجل شهد له شهود بأنه حاز رهنا، وشهد له آخرون بأنه لم يحزه، قال: شهادة من شهد له بالحوز هي المأخوذ بها، ولا يخرج حق أحد من يديه بأن يشهد عليه بأنه ليس بيده، وشهادة من أحقه ماضية، إلا أن يخرج من الشهود من لا مخرج له من شهادته إلا بجرحة.
قال محمد بن رشد: الجواب في هذه المسألة صحيح؛ لأن المعنى فيها أن المرتهن للرهن قبل قيام الغرماء على الراهن قام بعد قيامهم عليه، والرهن بيده، فادعى أنه حازه حين ارتهنه قبل قيام الغرماء على الراهن، وشهد له بذلك شهود، وشهد آخرون له أنه لم يحزه إلا بعد قيام الغرماء عليه، فوجب أن تكون شهادة من شهد بالحوز القديم أعمل؛ لأنها علمت من الحوز ما جهل الشهود الآخرون منه.
وقوله: ولا يخرج حق أحد من يديه بأن يشهد عليه أنه ليس بيديه معناه بأن يشهد عليه، بأنه ليس بيده باحتياز صحيح؛ لأن الشهود لم يشهدوا أنه ليس بيديه، وإنما شهدوا أنه لم يحزه قبل قيام الغرماء على الراهن، ولو ادعى المرتهن أن الرهن بيده، وأقام بينة على أن قد حازه قبل قيام الغرماء على الراهن، فقال الغرماء: ليس الرهن بيده، وأقاموا بينة على أنه لم يحز الرهن لوجب أيضا أن تكون بينة المرتهن أعمل؛ لأنها شهدت له بالحيازة، فهي محمولة على أنها بيده، من حينئذ حتى يثبت رجوعها إلى يد الراهن، وقد اختلف إذا ألفي الرهن بعد قيام الغرماء بيد المرتهن، فادعى أنه احتازه قبل قيام الغرماء وكذبه الغرماء على قولين قائمين من كتاب الهبة والصدقة من المدونة، وهذا كله مبني على القول بأن رهن من أحاط الدين بماله جائز، ما لم يقم عليه الغرماء، وبالله التوفيق.

.مسألة الولاء يثبت بالإقرار:

وسئل سحنون عن رجل مات فأقام رجل البينة أنه مولاه أعتقه، فيعطى ميراثه، ثم يأتي رجل آخر فيقيم البينة أنه مولاه وأنه أعتقه، ولم توقت البينة في شهادتهما وقتا، وكيف إن شهدت بينة الأول على إقراره بالولاء، فأخذ ميراثه، ثم جاء آخر فأقام البينة أنه مولاه أعتقه؟ قال: إذا أتى كل واحد منهما بالبينة مثل بينة صاحبه، كان الميراث بينهما نصفين، ولو أتى أحدهما ببينة على إقراره بالولاء، وأتى الآخر ببينة على أنه أعتقه كانت البينة التي شهدت بالعتق أولى بالميراث من البينة التي شهدت على إقراره.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه إذا أتى كل واحد منهما بالبينة مثل بينة صاحبه كان الميراث بينهما نصفين، هو مثل ما لابن القاسم في كتاب الولاء والمواريث من المدونة، وقد قيل: إن الميراث لا يخرج من يد الأول الذي أعطاه إلى غيره، إلا أن يأتي ببينة هل أعدل من ببينة الأول، وهو قول غير ابن القاسم في المدونة، وأما إن أتى كل واحد منهما ببينة مثل بينة صاحبه في العدالة قبل أن يدفع المال إلى أحدهما، فلا اختلاف في أن الميراث يكون بينهما نصفين، إلا أن يكون المولى مقرا بالولاء لأحدهما، فيكون أحق بالميراث إلا أن تكون بينة الآخر أعدل، ولو أتى كل واحد منهما ببينة على إقراره بالولاء؛ لكان الميراث لأعدلها بينة، فإن استوتا في العدالة كان الميراث بينهما نصفين، وهذا إذا لم يعلم لمن أقر له منهما أولا، فإن علم كان الأول أولى، وفي ذلك اختلاف، وكذلك إذا أقر بولاء ثم أقر بنسب كان الولاء أولى من النسب؛ لأن الولاء يثبت بالإقرار، ولا يثبت النسب بالإقرار، وفي ذلك اختلاف: قد قيل: إن النسب أولى، وهو ظاهر قول أصبغ في العتبية، وهو يدل من مذهبه أن الولاء يثبت بالإقرار، وإذا أقر بابن عم ثم أقر بأخ كان الأخ أحق، وقد قيل: إن ابن العم أحق لأنه المقر له أولا، وكذلك إن أقر بأخ، ثم أقر بعد ذلك بأخ فقيل: إن المقر له الآخر يدخل مع الأول، وقد قيل: إن الأول أحق؛ لأنه المقر له أولا، فيتحصل في إقراره بالولاء لرجل، وبالنسب لآخر ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن الولاء أولى من النسب تقدم أو تأخر، وهذا على القول بأن الولاء يثبت بالإقرار. الثاني: أن النسب أولى من الإقرار تقدم أو تأخر. وقيل: المتقدم أولى من المتأخر كان النسب أو الإقرار، وبالله التوفيق.

.مسألة قال من شهد علي منهما فهو ابن الزانية:

قال سحنون: وسئل المغيرة عن رجل كان له على رجل حق فتقاضاه، فأنكر المدعى عليه الحق وجحد، فقال الطالب: إن لي عليك البينة فلان وفلان، فقال: من شهد علي منهما فهو ابن الزانية، فقام الرجلان فشهدا عليه، قال مالك: عليه الحد.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه يحصل قاذفا لهما بشهادتهما عليه، ولا يحل لهما أن يكتما شهادتهما إذا دعيا إلى القيام بها؛ لقول الله عز وجل: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] وبالله التوفيق.

.مسألة يقول أشهد أن أبي إذ كان قاضيا قضى لفلان بكذا وكذا:

قلت: أرأيت الرجل يقول: أشهد أن أبي إذ كان قاضيا قضى لفلان بكذا وكذا، هل تجوز شهادته على قضاء أبيه؟ قال: نعم.
قال الإمام القاضي: قد قيل: إنها لا تجوز، وقد مضى القول فيها، وفيما هو في معناها من شهادته عنده أو معه أو على شهادته في نوازل سحنون، من كتاب الأقضية، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة حلف ليدفعن إليه حقه في وقت معين فشهدوا أنه قضاه قبله:

وسئل عن رجل حلف لرجل ليدفعن إليه حقه لوقت سماه، ثم جاء بعد الوقت برجل وامرأتين، فشهدوا أنه قضاه قبل الوقت؟ قال: يسقط عنه الحق، ولا يخرجه من الحنث الواجب الماضي لا يخرج منه بشهادة النساء ولا اليمين، قيل: فإن جاء بذلك قبل الوقت؟ قال: يسقط ذلك عنه من قبل أنه إذا حلف مع شاهده أو كانت امرأتان مع شاهد قبل وقت الحنث سقط الحق قبل وقت الحنث، فحل الأجل، وليس عليه شيء يقضيه، وإنما خرج عن اليمين بإسقاط الحاكم عنه الحق، ليس أن شاهدا وامرأتين ولا شاهدا ويمينا أسقط عنه الطلاق أو وقع عليه به.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم، من كتاب الأيمان بالطلاق، فلا معنى لإعادة القول فيه، وهي متكررة في غير ما موضع منه، وبالله التوفيق.

.مسألة تدخل على نفسها رجالا تشهدهم على نفسها بغير إذن زوجها وزوجها غائب:

قال سحنون: للمرأة ذات الزوج أن تدخل على نفسها رجالا تشهدهم على نفسها بغير إذن زوجها، وزوجها غائب، ولا تمنع من ذلك؛ لأنه لو كان زوجها حاضرا، فأرادت أن تدخل على نفسها شهداء لم تمنع من ذلك، إلا أنه لا يدخل عليها الشهداء في مغيب زوجها إلا ومعها ذو محرم منها.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن من حق المرأة أن تدخل على نفسها رجالا تشهدهم على نفسها بغير إذن زوجها، بما تريد أن تشهد به مما يجب عليها، أو يستحب لها؛ لأنها والرجل في ذلك سواء، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135]، وقال: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]، وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما حق امرئ مسلم يكون له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته عنده مكتوبة» وليس للزوج أن يمنع زوجته من شيء من ذلك، فإذا كان من حقها ذلك كان لها أن تفعله في مغيبه، والاختيار كما قال: أن لا تدخل الشهود على نفسها بغير محضر زوجها، إلا مع ذي محرم منها؛ لقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لا تسافر امرأة مسيرة يوم وليلة، إلا مع ذي محرم منها» فإن لم يكن لها ذو محرم منها، قام أهل الصلاح والفضل في ذلك مقامهم، وبالله التوفيق.

.مسألة شهادة الصبيان فيما بينهم:

وسئل سحنون ما الذي يؤخذ به في شهادة الصبيان فيما بينهم، أتراها جائزة في الجراح والقتل، أم لا تجوز إلا في الجراحات وحدها؟ فقال: قد اختلف أصحابنا فيها بالروايات عن مالك، واختلف فيها آراؤهم، فمنهم من يقول: شهادتهم في الجراح جائزة، ولا تجوز في القتل، ومنهم من يقول: شهادتهم جائزة في القتل والجراح، وكل رواية عن مالك، والذي آخذ به من ذلك، وأراه حسنا، وهو أعدل عندي، ولا توفيق إلا بالله، أن تجوز شهادتهم صغارا حيث تجوز كبارا، قيل له: فلم لا تجوز شهادة الواحد منهم، ويحلف مع شهادته كما تجوز شهادة الكبير، ويحلف معه صاحب الحق ويستحق حقه؟ فقال: إن شهادة الصبيان لا تجوز على العدالة، وإنما تجوز على الاضطرار إذا لم يكن معهم كبير، ألا ترى أنهم إذا خالطوا الناس، وخيف عليهم أن يخببوا، فلا تجوز شهادتهم؛ لأنها لم تكن على أصل عدالة، ولو كانت على أصل عدالة لم يضرهم مخالطة الناس؛ لأن مخالطة الناس لا تزيل العدالة حيث كانت بعد ثبتها، ولا يزيلها بعد أن تثبت إلا حدث ينقضها، قيل له: فالصبايا هل ترى أن تجوز شهادتهن في الجراحات صغارا كما تجوز كبارا؟ قال: نعم؛ إذا كان معهن ذكر جازت شهادتهن، فإنما يعتبر ذلك فيهن صغارا بشهادتهن كبارا، فشهادتهن في الجراحات والقتل جائزة إذا كان ذلك خطأ؛ لأنه يصير مالا، فشهادتهن في الأموال جائزة، فحيث تجوز شهادتهن كبارا جازت شهادتهن فيه صغارا، وهذا في الجراحات خطأ والقتل خطأ، ولا تجوز في غير هذا، قيل له: لم لمْ تقبل شهادة الصغار من الذكور والإناث في الحقوق كما قبلتها في الجراحات، وأنت تقول: شهادتهن صغارا جائزة، حيث تجوز شهادتهن كبارا؟ فقال: قد أخبرتك أن شهادتهن لم تجز إلا على الاضطرار، فإذا زال الاضطرار لم تجز شهادتهن، والحقوق غير الجراحات؛ لأن الحقوق قد يحضرها الرجال والنساء ويشهدون عليها، والجراحات والقتل بين الصبيان لا يحضرها غيرهم؛ لأن الكبار لا يكون معهم الصبيان حيث كانوا، ألا ترى أن الصغار إذا شهدوا على الكبار أن شهادتهم غير جائزة؛ لأنها مواضع يحضرها الكبار، فلا تجوز شهادة الصبيان فيها، وإنما تجوز شهادة الصبيان حيث لا يحضرهم غيرهم، أولا ترى لو أن رجلا صغيرا وكبيرا شهدا على جرح خطأ أو قتل خطأ لم تجز شهادة الصغير؛ لأن الكبير قد حضره، فليس مع الكبير شهادة للصغير، ويقال لصاحب الحق: احلف مع شاهدك الكبير، واستحق حقك، وإلا بطل ما ادعيت.
قال أصبغ: لا تجوز شهادة الإناث من الصبيان في الجراح فيما بينهم، وهو قول ابن القاسم أيضا، قيل: فالعبيد الصغار، لمَ لم تجز شهادتهم في الجراحات والقتل إذا لم يكن معهم غيرهم على الاضطرار، كما جوزت شهادة الأحرار الصغار؟ فقال: لأن شهادتهم كبارا غير جائزة، وإذا كانوا صغارا كانت أحرى ألا تجوز. قلت: أرأيت الصبيتين إذا شهدتا على الجراح الخطأ، هل يحلف مع شهادتهما كما يحلف مع الكبار في الحقوق؟ فقال: لا يحلف مع شهادتهما؛ لأن شهادتهما ليست على أصل العدالة، ألا ترى أن الغلام الصغير إذا شهد وليس معه غيره أنه لا يحلف مع شهادته؛ لأنه ليس بعدل، فموقف الصبيتين والثلاث والأربع، وأكثر من ذلك بموقف الصبي، ولا يكن أمثل منه حالا، ولا تجوز شهادته، وكما لا تجوز شهادته وحده، ولا يحلف الرجل معه، فكذلك لا تجوز شهادة الصبيات، ولا يحلف معهن، وإنما جاءت الآثار عن علي بن أبي طالب أنه كان يحكم بشهادة الصبيان فيما بينهم، والصبيان لا يكونون إلا اثنين فصاعدا، واسم الصبيان بجمع الذكور والإناث، والإناث وإن كثرن مقامهن مقام صبي واحد، والصبي لا يحلف مع شهادته، فكذلك ما سألت عنه، ولا تجوز شهادة الصبيان إذا حضر معهم رجل كبير واحد، فإذا شهد الصبيان في الجراح، وشهد معهم رجل لم تجز شهادة الصبيان؛ لأنه إنما تجوز شهادة الصبيان في الضرورة، فإذا كان رجل فقد ذهبت الضرورة، ولا تجوز شهادة الصبي؛ لأن الحديث إنما جاء بجواز شهادة الصبيان، والصبي لا يقال له صبيان، وسئل عن شهادة الصبيان إذا قيدت قبل أن يفترقوا ويخببوا، فأشهد عليه العدول، ثم بلغ منهم من هو عدل رضا قبل أن يحكم بها، فرجع عما كان شهد به؛ إذ قد كان صبيا، أتكون شهادته باطلا؟ فقال: هي شهادة لم يحكم بها، فإذا رجع عنها بعد بلوغه سقطت، وكان في رجعته عنها كشهود عدول شهدوا أن الذي شهد به الصبيان لم يكن، وشهادة الصبيان إنما الجرحة فيها أن يشهد العدول أنها لم تكن؛ لأن جرحتهم، لم تكن بالأحداث ولا خلاف العدول في حالهم؛ لأنهم لم يؤخذوا على العدل والرضا، ولم تجز شهادتهم بالعدالة، فجرحتهم إنما هي أن يشهد العدول أن الذي شهدوا به لم يكن، ولو كانت شهادتهم بالعدل ثبتت ومضت، وعلى ذلك... ما سقطت إلا بالجرحة أنهم غير عدول؛ لأن الشاهد العدل الكبير لا يجرح بأن الذي شهد به لم يكن، ولا يجرح إلا بما يكون به غير عدل فيما شهد به من الظنون والأسفاه، قيل له: فإن سئل الذي شهد، وهو صبي عن شهادته بعد بلوغه وعدله، وقبل الحكم بها، فشك فيها هل يضرها ذلك؟ فقال: لا يسأل عنها، ولو شك ما ضرها ذلك؛ لأنه لا يحتاج منه فيها يوم يشك إلى شيء، ولأن الشك منه ليس بشهادة منه على نفسه بأنه شهد بباطل، وإنما جعلت رجعته عنها كمثل شهادة الكبير بأن الذي شهد به الصبي لم يكن، فهو حين شك لم يشهد بباطل ما كان قيد من شهادته وهو صغير، قال: ولو كان قيدت شهادتهم على أمر، ثم شهد قبل الحكم، وبعد البلوغ والعدل منهم اثنان، أن الذي شهدنا نحن وهم به من ذلك الأمر باطل أسقطت شهادتهما، الشهادات كلها منها ومن غيرها؛ لأن شهادة الصبيان إذا شهد كبير أو عدلان أنها لم تكن تسقط. قيل له: فإن كان صبيان جميعا اختلفوا، فشهد اثنان بأن صبيا قتل صبيا، وشهد آخران ليس منهما القاتل أن دابة أصابته جبارا؟ فقال: تمضي شهادة الصبيين اللذين شهدا على الصبي بالقتل؛ لأنهم إذا كانوا صبيانا جميعا في حال شهادتهم كانوا كالكبار، لا يبطل ما شهد به الكبير بأن يشهد كبير مثله أن الذي شهد به لم يكن قبل، فشهادة الصبيين اللذين شهدا في صغرهما أنه أصابته دابة جبارا لو شهدا أيضا بعدما بلغا أن الذي شهد به الصبيان اللذان شهدا أن صبيا قتله باطل أن دابة أصابته فقتلته، كما كانا شهدا، وهما صبيان، فلم يؤخذ بقولهما، وأخذ بقول غيرهما، قال: لا تكون شهادتهما اليوم جائزة؛ لأنه من شهد فلم تؤخذ شهادته في حال، ثم حدث له حال غيرها، فشهد بما لم يكن أخذ من شهادته مثل عبد شهد، فلم يقبل فيعتق فجاء بها لا تؤخذ منه، ومثل من شهد وهو غير عدل، فلم يقبل فحسنت حاله فشهد بذلك فلا يقبل، ولا من كل من شهد لما يحسن من حال نفسه يوم يشهد بالشهادة الآخرة، قال: ولا شهادة للصبيان في موضع يحضره الكبار؛ لأنهم إنما جازت شهادتهم بحال الضرورة إليها.
قال محمد بن رشد: قد مضى تحصيل القول في هذه المسألة، في آخر سماع أشهب مستوفى، فليس لإعادته معنى، وهو قول سحنون في صدر هذه المسألة، في شهادة الصبايا أن ذلك يعتبر فيهن صغارا بشهادتهن كبارا، فشهادتهن في الجراح والقتل جائزة، إذا كان ذلك خطأ؛ لأنه يصير مالا، فشهادتهن في الأموال جائزة، فحيث تجوز شهادتهن كبارا، جازت شهادتهن فيه صغارا خلاف ما تقدم له في أول سماعه، من أن شهادة النساء في جراح العمد جائزة، وحيث يكون اليمين مع الشاهد، وقد مضى هنالك من تحصيل مذهبه في ذلك، ومذهب ابن القاسم، ما لا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
وقوله بعد ذلك: ولا تجوز شهادة الصبيان إذا حضر معهم رجل كبير واحد معناه إذا كان عدلا، وكذا في الواضحة لابن الماجشون، وهو مذهب سحنون؛ لأنه متبع له فيه في جميع وجوهه، من ذلك قوله: إن شهادة الصبيان بجرح بأن يشهد العدول، بأنها لم تكن خلاف قول أصبغ في نوازله بعد هذا، وبالله التوفيق.